الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب : الحمد للّه، محل النية القلب دون اللسان، باتفاق أئمة/ المسلمين في جميع العبادات: الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد، وغير ذلك. ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى بقلبه، لا باللفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجزئ ذلك باتفاق أئمة المسلمين. فإن النية هي من جنس القصد؛ ولهذا تقول العرب: نواك اللّه بخير، أى: قصدك بخير. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) مراده صلى الله عليه وسلم بالنية: النية التي في القلب؛ دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين: الأئمة الأربعة، وغيرهم. وسبب الحديث يدل على ذلك، فإن سببه أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، فسمى مهاجر أم قيس. فخطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وذكر هذا الحديث. وهذا كان نيته في قلبه. والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة، إذا فعل ذلك معتقدًا أنه من الشرع فهو جاهل ضال، يستحق التعزير، وإلا العقوبة على ذلك، إذا أصر/ على ذلك بعد تعريفه والبيان له، لا سيما إذا آذى من إلى جانبه برفع صوته، أو كرر ذلك مرة بعد مرة، فإنه يستحق التعزير البليغ على ذلك، ولم يقل أحد من المسلمين: إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها، سواء كان إماما أو مأمومًا، أو منفردًا. وأما التلفظ بها سرًا فلا يجب ـ أيضًا ـ عند الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إن التلفظ بالنية واجب، لا في طهارة ولا في صلاة، ولا صيام، ولا حج. ولا يجب على المصلى أن يقول بلسانه: أصلي الصبح، ولا أصلي الظهر، ولا العصر، ولا إماما ولا مأمومًا، ولا يقول بلسانه: فرضًا ولا نفلا، ولا غير ذلك، بل يكفي أن تكون نيته في قلبه، واللّه يعلم ما في القلوب. وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء، يكفي فيه نية القلب. وكذلك نية الصيام في رمضان، لا يجب على أحد أن يقول: أنا صائم غدًا، باتفاق الأئمة، بل يكفيه نية قلبه. والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد أن يفعله فلابد أن ينويه، فإذا علم المسلم أن غدًا من رمضان ـ وهو ممن يصوم رمضان ـ فلابد/ أن ينوي الصيام، فإذا علم أن غدًا العيد لم ينو الصيام تلك الليلة. وكذلك الصلاة: فإذا علم أن الصلاة القائمة صلاة الفجر، أو الظهر ـ وهو يعلم أنه يريد أن يصلي صلاة الفجر، أو الظهر ـ فإنه إنما ينوي تلك الصلاة، لا يمكنه أن يعلم أنها الفجر، وينوي الظهر. وكذلك إذا علم أنه يصلي إماما أو مأمومًا، فإنه لابد أن ينوي ذلك، والنية تتبع العلم والاعتقاد اتباعا ضروريًا، إذا كان يعلم ما يريد أن يفعله، فلابد أن ينويه. فإذا كان يعلم أنه يريد أن يصلي الظهر ـ وقد علم أن تلك الصلاة صلاة الظهر ـ امتنع أن يقصد غيرها، ولو اعتقد أن الوقت قد خرج أجزأته صلاته، باتفاق الأئمة. ولو اعتقد أنه خرج فنوى الصلاة بعد الوقت، فتبين أنها في الوقت، أجزأته الصلاة باتفاق الأئمة. وإذا كان قصده أن يصلي على الجنازة ـ أي جنازة كانت ـ فظنها رجلا، وكانت امرأة، صحت صلاته بخلاف ما نوى. وإذا كان مقصوده ألا يصلي إلا على ما يعتقده فلانًا، وصلى على من يعتقد أنه فلان، فتبين غيره، فإنه هنا لم يقصد الصلاة على ذلك الحاضر. /والمقصود هنا أن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة، ولكن بعض المتأخرين خرج وجهًا في مذهب الشافعي بوجوب ذلك، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي، وكان غلطه أن الشافعي قال: لابد من النطق في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم، وقالوا: إنما أراد النطق بالتكبير، لا بالنية. ولكن التلفظ بها هل هو مستحب، أم لا ؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء. منهم من استحب التلفظ بها، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا: التلفظ بها أوكد، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج، وغير ذلك. ومنهم من لم يستحب التلفظ بها، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما وهذا هو المنصوص عن مالك، وأحمد، سئل: تقول قبل التكبير شيئًا ؟ قال: لا. وهذا هو الصواب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول قبل التكبير شيئًا، ولم يكن يتلفظ بالنية، لا في الطهارة، ولا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا في الحج، ولا غيرها من العبادات، ولا خلفاؤه، ولا أمر أحدًا أن يتلفظ بالنية، بل قال لمن علمه الصلاة: ( كبر) كما في /الصحيح عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين ولم يتلفظ قبل التكبير بنية، ولا غيرها، ولا علم ذلك أحدًا من المسلمين. ولو كان ذلك مستحبًا، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولعظمه المسلمون. وكذلك في الحج إنما كان يستفتح الإحرام بالتلبية، وشرع للمسلمين أن يلبوا في أول الحج، وقال صلى الله عليه وسلم لضُبَاعَة بنت الزبير: (حجي واشترطي، فقولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني) فأمرها أن تشترط بعد التلبية. ولم يشرع لأحد أن يقول قبل التلبية شيئًا. لا يقول: اللهم إني أريد العمرة والحج، ولا الحج والعمرة، ولا يقول: فيسره لي وتقبله مني، ولا يقول: نويتهما جميعًا، ولا يقول: أحرمت للّّه، ولا غير ذلك من العبادات كلها. ولا يقول قبل التلبية شيئًا، بل جعل التلبية في الحج كالتكبير في الصلاة. وكان هو وأصحابه يقولون: فلان أهل بالحج، أهل بالعمرة، أو أهل بهما جميعًا. كما يقال: كبر للصلاة، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، وكان يقول في تلبيته: (لبيك حجًا وعمرة) ينوي ما يريد أن /يفعله بعد التلبية؛ لا قبلها. وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير، وقبل التلبية، وفي الطهارة، وسائر العبادات فهي من البدع التي لم يشرعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهي بدعة، بل كان صلى الله عليه وسلم يداوم في العبادات على تركها، ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين: من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خير من تركه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله البتة، فيبقى حقيقة هذا القول، إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات، فقال: أخاف عليك الفتنة، فقال له السائل: أي فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة اللّه - عز وجل. قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي، فرغب عما سنيته معتقدًا /أن ما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني؛ لأن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة. فمن قال: إن هدي غير محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من هدي محمد، فهو مفتون، بل ضال. قال اللّه ـ تعالى ـ إجلالًا له وتثبيت حجته على الناس كافة ـ: وهو صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين باتباعه، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه. وأنه لا أفضل من ذلك. فمن لم يعتقد هذا، فقد عصى أمره، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك المتنطعون)، قالها ثلاثًا. أي المشددون في غير موضع التشديد، وقال أبى بن كعب، وابن مسعود: اقتصاد في سنةٍ خير من اجتهاد في بدعة. ولا يحتج محتج بجمع التراويح، ويقول: (نعمت البدعة هذه) فإنها بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل هذه، وهي سنة من الشريعة. وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومصر الأمصار كالكوفة /والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، وغير ذلك. فقيام رمضان سنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوم على جماعة واحدة لئلا يفترض عليهم، فلما مات صلى الله عليه وسلم استقرت الشريعة. فلما كان عمر ـ رضي اللّه عنه ـ جمعهم على إمام واحد، والذي جمعهم أبي بن كعب، جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعمر هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) يعني الأضراس؛ لأنه أعظم في القوة. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان، فمن خالف السنة كفر) فأي من اعتقد أن الركعتين في السفر لا تجزئ المسافر كفر. والوجه الثاني: من حيث المداومة على خلاف ما داوم عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في العبادات، فإن هذا بدعة باتفاق الأئمة، وإن ظن الظان أن في زيادته خيرًا كما أحدثه بعض المتقدمين من الأذان والإقامة في العيدين، فنهوا عن ذلك، وكرهه أئمة المسلمين، كما/ لو صلى عقيب السعي ركعتين قياسًا على ركعتي الطواف. وقد استحب ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي. واستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد في الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد، فخالفوا الأئمة والسنة، وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد ؛ بخلاف المقيم الذي يريد الصلاة فيه دون الطواف، فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن. وفي الجملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكمل اللّه له ولأمته الدين، وأتم به صلى الله عليه وسلم عليهم النعمة، فمن جعل عملا واجبًا مما لم يوجبه اللّه ورسوله، أو لم يكرهه اللّه ورسوله، فهو غالط. فجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه اللّه ورسوله، ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل في حرب من اللّه، فمن شرع من الدين ما لم يأذن به اللّه، وحرم ما لم يحرم اللّه ورسوله، فهو من دين أهل الجاهلية، المخالفين لرسوله، الذين ذمهم اللّه في سورة الأنعام، والأعراف وغيرهما من السور، حيث شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه. فحرموا ما لم يحرمه اللّه، وأحلوا ما حرمه اللّه، فذمهم اللّه وعابهم على ذلك. فلهذا كان دين المؤمنين باللّه ورسوله، أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، /والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فلا واجب إلا ما أوجبه اللّه ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله اللّه ورسوله. فمن ذلك ما اتفق عليه أئمة الدين، ومنه ما تنازعوا فيه، فردوه إلى اللّه ورسوله، كما قال تعالي: فمن تكلم بجهل، وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهي عن ذلك، ويؤدب على الإصرار، كما يفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدي في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة، وإن كان مشهورًا عنه العلم. كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك. واللّه أعلم. والحمد للّه.
فأجاب : الحمد للّه رب العالمين، سئل الإمام أحمد عن رجل يخرج من بيته للصلاة، هل ينوي حين الصلاة؟ فقال: قد نوى حين خرج؛ ولهذا قال أكابر أصحابه ـ كالخرقي وغيره ـ يجزئه تقديم النية على التكبير من حين يدخل وقت الصلاة، وإذا كان مستحضرًا للنية إلى حين الصلاة أجزأ ذلك، باتفاق العلماء. فإن النية لا يجب التلفظ بها باتفاق العلماء. ومعلوم في العادة أن من كبر في الصلاة لابد أن يقصد الصلاة، وإذا علم أنه يصلي الظهر نوى الظهر، فمتى علم ما يريد فعله نواه بالضرورة، ولكن إذا لم يعلم أو نسي شذت عنه النية، وهذا نادر. والتلفظ بالنية، في استحبابه قولان في مذهب أحمد وغيره. والمنصوص عنه أنه لا يستحب التلفظ بالنية. قال أبو داود: قلت لأحمد: يقول المصلي قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا.
فأجاب : أما مقارنتها التكبير، فللعلماء فيه قولان مشهوران: أحدهما: لا يجب . . . . والمقارنة المشروطة: قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية، وهذا ممكن لا صعوبة فيه، بل عامة الناس إنما يصلون هكذا، وهذا أمر ضروري، لو كلفوا تركه لعجزوا عنه. وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير، بحيث يكون أولها مع أوله، وآخرها مع آخره. وهذا لا يصح؛ لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة، وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة. وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير، وهذا تنازعوا في إمكانه. فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن، ولا مقدور للبشر عليه، فضلا عن وجوبه، ولو قيل بإمكانه، فهو متعسر، في سقط بالحرج. /وأيضًا، فمما يبطل هذا والذي قبله، أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره، في كون قلبه مشغولا بمعنى التكبير، لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية؛ ولأن النية من الشروط، والشروط تتقدم العبادات، ويستمر حكمها إلى آخرها، كالطهارة. واللّه أعلم.
فأجاب : الحمد للّه، نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم، والصلاة والصيام والحج والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات لا تفتقر إلى نطق اللسان، باتفاق أئمة الإسلام. بل النية محلها القلب دون اللسان باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطًا بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوي، لا بما لفظ، ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي ـ رحمه اللّه ـ خرج وجهًا في ذلك، وغَلَّطه فيه أئمة أصحابه. وكان سبب غلطه أن الشافعي قال: إن الصلاة لابد من النطق/في أولها. وأراد الشافعي بذلك: التكبير الواجب في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم. ولكن تنازع العلماء: هل يستحب التلفظ بالنية سرًا أم لا ؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء. فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب التلفظ بها؛ لكونه أوكد. وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها؛ لأن ذلك بدعة لم تنقل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من أمته أن يتلفظ بالنية، ولا عَلَّم ذلك أحدًا من المسلمين، ولو كان هذا مشهورًا مشروعا، لم يهمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة. وهذا القول أصح الأقوال، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين؛ أما في الدين؛ فلأنه بدعة. وأما في العقل؛ فلأنه بمنزلة من يريد يأكل طعامًا في قول: نويت بوضع يدي في هذا الإناء أني أريد آخذ منه لقمة فأضعها في فمي فأمضغها ثم أبلعها لأشبع، مثل القائل الذي يقول: نويت أصلي فريضة هذه الصلاة المفروضة على / حاضر الوقت، أربع ركعات في جماعة، أداء للّه تعالي. فهذا كله حمق وجهل؛ وذلك أن النية بليغ العلم، فمتي علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية؛ ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية. وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاد ذلك، فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبًا بمنعه عن ذلك التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته؛ لأنه قد جاء الحديث: (أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة) فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة؟ بل يقول: نويت أصلي، أصلي فريضة كذا وكذا، في وقت كذا وكذا، من الأفعال التي لم يشرعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
فأجاب : الحمد للّه، الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة، ليس من البدع الحسنة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لم يقل أحد منهم: إن الجهر بالنية مستحب، ولا هو بدعة حسنة، فمن قال ذلك، فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأئمة الأربعة، وغيرهم. وقائل هذا يستتاب، فإن تاب، وإلا عوقب بما يستحقه. وإنما تنازع الناس في نفس التلفظ بها سرًا. هل يستحب أم لا ؟ على قولين. والصواب أنه لا يستحب التلفظ بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بها لا سرًا ولا جهرًا، والعبادات التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ليس لأحد تغييرها، ولا إحداث بدعة في ها. وليس لأحد أن يقول: إن مثل هذا من البدع الحسنة، مثل ما أحدث بعض الناس الأذان في العيدين، والذي أحدثه مروان بن/ الحكم، فأنكر الصحابة ـ والتابعون لهم بإحسان ـ ذلك. هذا، وإن كان الأذان ذكر اللّه؛ لأنه ليس من السنة. وكذلك لما أحدث الناس اجتماعا راتبًا غير الشرعي: مثل الاجتماع على صلاة معينة، أول رجب أو أول ليلة جمعة فيه ، وليلة النصف من شعبان، فأنكر ذلك علماء المسلمين. ولو أحدث ناس صلاة سادسة يجتمعون عليها غير الصلوات الخمس، لأنكر ذلك عليهم المسلمون، وأخذوا على أيديهم. وأما [قيام رمضان]، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سنه لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهده يصلون جماعة، وفرادي، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة؛ لئلا تفرض عليهم. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم استقرت الشريعة، فلما كان عمر ـ رضي اللّه عنه ـ جمعهم على إمـام واحد، وهو أبي بن كعب، الذي جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه . وعمر ـ رضي اللّه عنه ـ هو من الخلفاء الراشدين ـ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. عضوا عليها بالنواجذ) يعني الأضراس؛ لأنها أعظم في القوة. وهذا الذي فعله هو سنة، لكنه قال: نعمت البدعة هذه، فإنها/بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يعني من الاجتماع على مثل هذه، وهي سنة من الشريعة. وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن واليمامة، وكل البلاد الذي لم يبلغه ملك فارس والروم من جزيرة العرب، ومصر الأمصار: كالكوفة والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، والأذان الأول يوم الجمعة، واستنابة من يصلي بالناس يوم العيد خارج المصر، ونحو ذلك مما سنه الخلفاء الراشدون؛ لأنهم سنوه بأمر اللّه ورسوله، فهو سنة. وإن كان في اللغة يسمي بدعة. وأما الجهر بالنية، وتكريرها، فبدعة سيئة ليست مستحبة باتفاق المسلمين؛ لأنها لم يكن يفعلها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون.
فأجاب : الحمد للّه، الجهر بلفظ النية ليس مشروعا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعي أن ذلك دين اللّه، وأنه واجب، فإنه يجب تعريفه الشريعة، واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة في العبادات كالوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين. و[النية] هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء. فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة، / وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به، ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين من أتباع الأئمة زعم أن اللفظ بالنية واجب، ولم يقل: إن الجهر بها واجب. ومع هذا، فهذا القول خطأ صريح مخالف لإجماع المسلمين، ولِمَا عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون. فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا علمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن). وفي السـنن عنـه صلى الله عليه وسلم أنـه قال: (مفتاح الصـلاة الطهـور، وتحـريمها التكبـير، وتحليلها التسليم). وفي صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين. وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير. ولم ينقل مسلم لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك. ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل/ ذلك، لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أهل التواتر عادة وشرعا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد علم قطعًا أنه لم يكن. ولهذا يتنازع الفقهاء المتأخرون في اللفظ بالنية: هل هو مستحب مع النية التي في القلب؟ فاستحبه طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. قالوا: لأنه أوكد، وأتم تحقيقًا للنية، ولم يستحبه طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما، وهو المنصوص عن أحمد وغيره، بل رأوا أنه بدعة مكروهة. قالوا: لو أنه كان مستحبًا لفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو لأمر به، فإنه صلى الله عليه وسلم قد بين كل ما يقرب إلى اللّه، لا سيما الصلاة التي لا تؤخذ صفتها إلا عنه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). قال هؤلاء: فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة، وأمثال ذلك. قالوا: وأيضًا، فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل. فإن قول القائل: أنوي أن أفعل كذا وكذا، بمنزلة قوله: أنوي آكل هذا الطعام/ لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها، وقد قال اللّه تعالي: وبالجملة، فلابد من النية في القلب بلا نزاع. وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب؟ فيه نزاع بين المتأخرين. وأما الجهر بها، فهو مكروه منهي عنه، غير مشروع باتفاق المسلمين، وكذلك تكريرها أشد وأشد. وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية، ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك، بل جهر المنفرد بالقراءة إذا كان فيه أذي لغيره لم يشرع، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون فقال: (أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة). وأما المأموم، فالسنة له المخافتة باتفاق المسلمين، لكن إذا جهر أحيانًا /بشيء من الذكر، فلا بأس، كالإمام إذا أسمعهم أحيانًا الآية في صلاة السر، فقد ثبت في الصحيح عن أبي قتادة: أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة الظهر والعصر يسمعهم الآية أحيانًا. وثبت في الصحيح أن من الصحابة المأمومين، من جهر بدعاء حين افتتاح الصلاة، وعند رفع رأسه من الركوع، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها، فإنه ينبغي أن يعزر تعزيرًا يردعه، وأمثاله عن مثل ذلك. ومن نسب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الباطل خطـأ، فإنه يعَرَّف، فإن لم ينته، عوقب. ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم، أو أدخل في الدين ما ليس منه. وأما قول القائل: كل يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شـرعه اللّه ورسوله، دون ما يشتهيه ويهواه، قال اللّه تعالي: وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به). قال تعالي: فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذي بعث اللّه به رسوله، ولا يجعل دينه تبعًا لهـواه. واللّه أعلم.
/ فأجاب: الحمد للّه، الصلاة لا تجوز إلا بنية، لكن محل النية القلب باتفاق المسلمين. وهي القصد والإرادة. فإن نوى بقلبه خلاف ما نطق بلسانه، كان الاعتبار بما قصد بقلبه. وتنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بما نواه ؟ على قولين. واتفقوا على أنه لا يستحب الجهر بالنية، ولا تكرير التكلم بها، بل ذلك منهي عنه باتفاق الأئمة، ولو لم يتكلم بالنية، صحت صلاته عند الأئمة الأربعة، وغيرهم. ولم يخالف إلا بعض شذوذ المتأخرين.
/ فأجاب: هذا الكلام قاله غير واحد، وبعضهم يذكره مرفوعا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن النية المجردة من العمل، يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه. فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص للّه، لم يقبل منه ذلك. وقد ثبت في الصحيحين ـ من غير وجه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة). الثاني: أن من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم). قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة، حبسهم العذر). وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري، عن النبي/ صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر أربعة رجال: (رجل آتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه. ورجل آتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه. ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الوزر سواء). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)، وشواهد هذا كثيرة. الثالث: أن القلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك، بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود. الرابع: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة، / كتوبة المجبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف، وغيره. وأصل التوبة عزم القلب، وهذا حاصل مع العجز. الخامس: أن النية لا يدخلها فساد، بخلاف الأعمال الظاهرة. فإن النية أصلها حب اللّه ورسوله، وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب للّه ورسوله، مرضي للّه ورسوله. والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها، لم تكن مقبولة؛ ولهذا كانت أعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة. كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه، وتفصيل هذا يطول. واللّه أعلم.
فأجاب: الحمد للّه، أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية، فهو جاهل؛ فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب، لا في مذهب أبي حنيفة، ولا/أحد من أئمة المسلمين، بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية، ومن جهر بالنية فهو مخطئ، مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين، بل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية ـ لا سرًا ولا جهرًا ـ كانت صحيحة، ولا يجب التكلم بالنية: لا عند أبي حنيفة، ولا عند أحد من الأئمة، حتى أن بعض متأخري أصحاب الشافعي لما ذكر وجها مخرجا أن اللفظ بالنية واجب، غَلَّطَه بقية أصحابه، وقالوا: إنما أوجب الشافعي النطق في أول الصلاة بالتكبير، لا بالنية. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فلم يتنازعوا في أن النطق بالنية لا يجب، وكذلك مالك وأصحابه، وأحمد وأصحابه، بل تنازع العلماء: هل يستحب التلفظ بالنية سرًا؟ على قولين: فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب التلفظ بالنية، لا الجهر بها، ولا يجب التلفظ، ولا الجهر. وقال طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم: بل لا يستحب التلفظ بالنية، لا سرًا ولا جهرًا، كما لا يجب باتفاق الأئمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية، لا سرًا ولا جهرًا، وهذا القول هو الصواب الذي جاءت به السنة. /وأما رفع اليدين في كل تكبيرة حتى في السجود، فليست هي السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح. وأما رفعهما عند الركوع، والاعتدال من الركوع، فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة. كإبراهيم النَّخَعي، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم. وأما أكثر فقهاء الأمصار، وعلماء الآثار، فإنهم عـرفـوا ذلك ـ لما إنـه استفاضت بـه السـنة عـن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كالأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، وهو إحدى الروايتين عن مالك. فإنه قد ثبت في الصحيحين، من حديث ابن عمر وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، ولا كذلك بين السجدتين، وثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وأبي حُمَيْد السَّاعدي: في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ أحدهم أبو قتادة ـ وهو معروف من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعدد كثير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة، حصبه. وقال عقبة بن عامر: له بكل إشارة عشر حسنات. /والكوفيون حجتهم أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يكن يرفع يديه. وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة. فإن عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه عمر ابن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السـنة. لكن قد حفظ الـرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة ـ رضوان الله تعالي عليهم. وابن مسعود لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع، إلا أول مرة. والإنسان قد ينسي، وقد يذهل، وقد خفي على ابن مسعود التطبيق في الصلاة، فكان يصلي، وإذا ركع طبق بين يديه، كما كانوا يفعلون أول الإسلام. ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك، وأمروا بالركب، وهذا لم يحفظه ابن مسعود. فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة، بل يجوز أن يصلي بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن. وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأي في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوي فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولي بالحق، وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي صلى الله عليه وسلم، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويري أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه. /فمن فعل هذا، كان جاهلًا ضالًا، بل قد يكون كافرًا. فإنه متي اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر، فإنه يجب أن يستتاب. فإن تاب، وإلا قتل. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو. وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم. ومن كان مواليًا للأئمة، محبًا لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة، فهو محسن في ذلك. بل هذا أحسن حالا من غيره. ولا يقال لمثل هذا: مذبذب على وجه الذم. وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين، ولا مع الكفار، بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكافرين بوجه، كما قال تعالي في حق المنافقين: فهؤلاء المنافقون المذبذبون، هم الذين ذمهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال في/ حقهم: قال الله ـ تعالي ـ: وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر). وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وشيك بين أصابعه. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه). وفي الصحيحين أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه). وقال: (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). وقد أمر الله ـ تعالي ـ المؤمنين بالاجتماع والائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال تعالي: /فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة. ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين، فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما. فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت ـ بالكتاب والسنة والإجماع ـ أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه، ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم، أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالمًا، و الله يأمر بالعلم والعدل، وينهي عن الجهل والظلم. قال تعالي: وهذا أبو يوسف ومحمد، أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله،/وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما ـ مع ذلك ـ معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب. فإن الإنسان لايزال يطلب العلم والإيمان. فإذا تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه، اتبعه. وليس هذا مذبذبا، بل هذا مهتد زاده الله هدي. وقد قال تعالي: فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ، فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلي المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه، لا يقدح ذلك في صلاتهم، ولا يبطلها، لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد. ولو رفع الإمام دون المأموم، أو المأموم دون الإمام، لم يقدح ذلك في صلاة واحد منهما. ولو رفع الرجل في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته. وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهي عن غيره مما جاءت به السنة، بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع مثل الأذان والإقامة. فقد / ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وثبت عنه في الصحيحين: أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعًا شفعًا، كالأذان. فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها، فقد أحسن. ومن أوجب هذا دون هذا، فهو مخطئ ضال. ومن والي من يفعل هذا دون هذا ـ بمجرد ذلك ـ فهو مخطئ ضال. وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين. والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين. والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا. وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا. وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهي الله ورسوله عنه. وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوي الأنفس، المتبعين لأهوائهم بغير هدي من الله، مستحقون للذم والعقاب. وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه. فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع. وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب/والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبا. وإن كانت صدقًا، فليس صاحبها معصومًا يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الناقلين لذلك، مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي، قد أوجب الله ـ تعالي ـ على جميع الخلق طاعته واتباعه. قال تعالي: و الله ـ تعالي ـ يوفقنا ـ وسائر إخواننا المؤمنين ـ لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، والهدي والنية. و الله أعلم. والحمد للَّه وحده.
|